خاص - قدس الإخبارية: لا تتطلع حكومة الاحتلال الحالية ولا المزاج "الشعبي" في "إسرائيل" إلى أي علاقات سياسية مع السلطة الفلسطينية، ولا حتى المتغيرات الدولية وعلى وجه الخصوص انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة تبشر بفتح أفق سياسي لهذه السلطة، بل إن مكونات الحكومة الحالية في الاحتلال تتلاقى في أفكارها مع الحكام الجدد في البيت الأبيض بضرورة تدمير أي إمكانية لوجود كيانية سياسية فلسطينية. ومع ذلك، تسعى السلطة الفلسطينية للقضاء على حالة المقاومة في الضفة الغربية، مستغلة الانشغال العالي لدى الجمهور بما يحدث في قطاع غزة والمحيط سواء سوريا أو لبنان. وهذا يضع علامة استفهام عن حقيقة الدوافع وراء هذه الخطوة، التي لا يمنحها الإسرائيليون أي مقابل تقدّمه كتفسير لما تقوم به.
وفي حين تحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية وبعض الجهات المقربة من السلطة تصوير الأمر على أنه خطوة استباقية لمنع حدوث مفاجآت كتلك التي وقعت في سوريا، إلا أن الحقيقة لا تبدو كذلك لأن المجموعات العاملة في الضفة ليس لديها القدرة الفعلية على السيطرة على مراكز السلطة، عوضا عن أنها لا تخطط لذلك لأن طبيعة المرحلة وتعقيدات الواقع الاجتماعي والأمني في الضفة الغربية تمنع نجاح مثل هذه الخطوات، وأيضا الوعي الذي تتبناه فصائل المقاومة الفلسطينية فيما يتعلق بالاقتتال الداخلي خاصة بعد تجربة 2007، تشير بلا شك إلى عدم واقعية هذه الافتراضات، ولا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه المجموعات تنشط في أماكن محدودة ومنذ انطلاقة عملها في 2021 لم يحدث أنها صرحت أو ألمحت ولا مارست أي فعل يؤكد ادعاء السيطرة على مؤسسات السلطة.
إن ما يحرك السلطة في هذه المرحلة هو مشروعها الحقيقي الذي وجدت لأجله ومن أجله، الوظيفة الأمنية المتمثلة بتحقيق المصالح الأمنية الإسرائيلية. هذا الافتراض يدعمه تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول خشيتهم من تطور الواقع العسكري للمقاومة هناك بما يضمن ويشمل تطور أساليب المقاومة. تمثل الضفة بالنسبة للإسرائيليين خاصرة رخوة من حيث جغرافيتها المتداخلة مع الجغرافيا المحتلة عام 1948، وكذلك الاحتكاك الجغرافي والديمغرافي بالمستوطنين في الضفة، وهذه أسباب كافية للتعامل معها كأخطر ساحة اشتباك، بل وأهم ساحة يتركز فيها الجهدين العسكري والاستخباراتي على الدوام وبدون انقطاع، حتى وصفها بعض الخبراء الإسرائيليين بأنها "ساحة استنزاف".
لقد شكّل طوفان الأقصى بالنسبة للإسرائيليين كارثة غير مسبوقة، إذ أن عنصر المفاجأة والمبادرة كان الحاسم في انهيار فرقة عسكرية كاملة على يد مئات المقاومين من نخبة كتائب عز الدين القسام، وهذا الأمر من شأنه أن يحدّث كل العقلية الأمنية الإسرائيلية باتجاه الخوف من المعطيات الواضحة. ومن الناحية الأمنية، فإن التحكم المستمر في ساحة ما، عبر وسائل يجري تطويرها وتحديثها، يضمن بقاء هذه الساحة ضمن التصور المعقول. لكن الابتعاد عن أي ساحة عسكريا وأمنيا واللجوء لخيارات اقتصادية أو اجتماعية لإعادة هندستها، لا يلبي بالضرورة الهدف المرجو، خاصة إذا كان العدو أو الخصم يمتلك رؤية سياسية وأيديولوجية. وطالما وقع الإسرائيليون في فخ الفجوة الثقافية، ليس لأن الفلسطيني غير مفهوم، بل لأن الإسرائيلي محكوم بتصورات ثقافية أساسية حول الفلسطيني تمنعه من قرائته بالطريقة التي تمنحه القدرة على السيطرة عليه نهائيا، وهذه الثقافة مشكلتها أنها متأصلة في الأيديولوجيا الصهيونية بل وأبعد من ذلك فهي ابنة بيئة لا تنتمي للشرق الأوسط ثقافيا.
قد يكون "الطوفان" أحد الأسباب التي تعيد الإسرائيليين إلى مربع الحقيقة وتقلص فجوة الفهم الثقافي، وهذا أمر سلبي بالنسبة للفلسطينيين، لأن المعادلة ستتغير والضغوط ستكون أكبر، وخاصة الضغطين الأمني والعسكري. لهذا يمكن الإشارة إلى أن إعلان الاحتلال عن الضفة الغربية كساحة قتال رئيسية جاء من هذا المنطلق، الذي يرى الوجود ككل، سواء المحايد أو النشط، وجودا خطرا يستدعي عملا حقيقيا. وإذا كان هذا هو المعتقد الأمني الجديد للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، فإنه سيدفعها بكل قوة لوأد أي حالة مقاومة مهما صغر أو كبر حجمها. وبالتوازي مع هذا الجهد، يأتي دور السلطة الفلسطينية لمنع المفاجآت عبر هندسة الساحة بالضغط الأمني والعسكري وإبقائها في حالة إشغال مستمر، وفي هذه الحالة يكن الطرف الأقوى هو الأكثر فهما لما يمكن فعله وما يجب فعله.
إن العملية العسكرية للسلطة الفلسطينية في جنين هي نتاج مباشر لمتغيّرات طرأت في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وليست ارتدادا أو انعكاسا لحدث فلسطيني داخلي أو عربي. هي عملية تكيف مع التوجه الأمني الإسرائيلي، وحتى لو لم تحقق العملية أهدافها بالسيطرة على حالة المقاومة، فإنها لن تكون العملية الأخيرة، بل يمكن القول إن الضفة الغربية دخلت مرحلة إعادة هندسة أمنية على يد الأذرع الأمنية الإسرائيلية وكذلك التابعة للسلطة الفلسطينية.
ويؤكد هذا الطرح ما كشفته مصادر إسرائيلية عن اجتماعات سوف يعقدها "الكابينيت" لتدارس الوضع في الضفة، وطرح المستوى السياسي للاحتلال أسئلة جدية على القيادة المركزية لجيش الاحتلال حول القدرة على الاستجابة العملياتية لأحداث مفاجئة.
وإذا كان الإسرائيليون قد خرجوا من طوفان الأقصى باستنتاجات سوف تؤثر وأثرت على نظرياتهم الأمنية، فإن المقاومة الفلسطينية هي الاخرى بحاجة لدراسة هذه المتغيرات وخاصة في الضفة الغربية التي يبدو أنها الساحة التي تستحوذ على الاهتمام الإسرائيلي في الوقت الحالي ومستقبلا. إن العمليات الأمنية والعسكرية للسلطة الفلسطينية ستستمر وسيرافقها بروباغندا هائلة تشترك فيها منصات محلية وعربية ودولية، وهذا يتطلب أيضا من فصائل المقاومة تطوير خطابها الإعلامي وإعادة قراءة للمشهد مع الأخذ بعين الاعتبار حرب الإبادة وانعكاساتها في الوعي الجمعي الفلسطيني.